سورة الكهف - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)} [الكهف: 18/ 79- 82].
هذا تفسير الوقائع والأحداث التي قام بها الخضر عليه السلام بحضور موسى عليه السلام، ولم يستطع تقبلها والصبر عليها، لمخالفتها شريعته في الظاهر، لكن الشرائع مبنية كلها على الظواهر العامة، والله وحده من وراء السرائر.
أما حادث خرق السفينة: فكان بقصد تعييبها، من أجل حمايتها والحفاظ عليها لأنها كانت مملوكة لضعفاء أيتام، ليس لهم شيء ينتفعون به غيرها، ولا يقدرون على مقاومة من أراد ظلمهم، وكانوا يكرون تلك السفينة لركاب البحر، ويأخذون الأجرة، فقام الخضر بخرقها ونزع لوح خشبي منها ليعيبها، لأنه كان أمام الركاب ملك ظالم، يأخذ كل سفينة صالحة غير معيبة، اغتصابا وظلما من غير وجه حق، فكان عمل الخضر حماية لهذه السفينة، وصونها لأصحابها الضعفاء، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين لدفع أعظمهما. والمراد من قوله تعالى: {وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ} أي أمامهم، كقوله تعالى: {مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 45/ 10] وقالوا: «وراء» من الأضداد. وعبر الله عن أصحاب السفينة بلفظ «فكانت لمساكين» أي ضعفاء إشفاقا على حالهم التي كانوا عليها.
وأما حادث قتل الغلام: فلأنه كان كافرا، وكان أبواه مؤمنين يحبانه، فكانت هناك خشية من متابعته في الكفر والوقوع في الظلم والعصيان، حينما يكبر، لأن حب الولد غريزة، ومجاملته من أبويه قد تقع، فكان قتله حماية على عقيدة والديه، من قبيل سد الذرائع، أي منع الوسيلة المفضية إلى ممنوع شرعا.
قال الخضر: أراد الله أن يرزق هذين الوالدين ولدا آخر بدلا عنه وخيرا منه في الصلاح والعقيدة، وبر الأبوين والعطف عليهما. روي عن ابن جريج: «أنهما بدّلا غلاما مسلما».
وأما حادث بناء الجدار مجانا: فكان في بلدة أنطاكية، وكان آيلا للسقوط، وكان تحته كنز لغلامين يتيمين في تلك المدينة، وكان أبوهما وهو الجدّ السابع رجلا صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز مدفونا محفوظا للغلامين حتى يرشدا، فأمر الله الخضر بإصلاح ذلك الحائط، إذ لو سقط لاكتشف الكنز وأخذ، فهدمه الخضر ثم أعاد بناءه ليحفظ الكنز للغلامين حين الكبر والرشد، أو بلوغ الأشد، فإذا ما كبرا استخرجا الكنز، وانتفعا به، وفي هذا مصلحة واضحة، لا يقدم عليها أحد إلا من آتاه الله علما لدنيّا، وإلهاما ربانيا صادقا.
وكان الخضر في هذه الأفعال ينسب الفعل لنفسه، إلا في حادث بلوغ الحلم الذي لا يقدر عليه أحد إلا الله، عملا بمقتضى الأدب، الذي؟؟ يقضي بإسناد الخير إلى الله، والشر إلى العباد.
وكان الكلام الأخير للخضر قرارا حاسما، يلقي الطمأنينة والسكينة في قلب موسى عليه السلام، ومضمونه: أن الخضر لم يفعل هذه الأمور الثلاثة باجتهاد ورأي شخصي، أو تجرؤ على المخالفة، وإنما فعل ذلك بأمر الله وإرشاده وإلهامه لأن الاعتداء على المال والنفس والقيام بإصلاح الجدار مجانا، إنما كان بدليل قاطع، وهو الإلهام الذي هو أشبه بالوحي، وذلك هو تفسير ما ضاق صبر موسى عنه، ولم يطق السكوت عنه، ولكن موسى عليه السلام بعد بيان سبب تلك الأفعال ومعرفة الحكمة فيها، اطمأن قلبه، وهدأ غضبه، وزال ما ثار في نفسه من ضرورة إنكار المنكر في ظاهر الأمر، والله هو الموفق إلى سواء الصراط.
قصة ذي القرنين وبلوغه المشرقين:
فيما قبل الميلاد، كان هناك رجل صالح أعطاه الله ملكا واسعا فبلغ مشرق الشمس ومغربها، وهو الملقّب بذي القرنين أي صاحب الضفيرتين من الشعر، وهو كالخضر لم يكن نبيا، وقد ذكر الله تعالى قصته بعد إيراد ثلاث قصص في سورة الكهف، كانت مثار إعجاب واستغراب معا في توقعات البشر، ولكنها هينة سهلة في تقدير الله وقدرته. وتضمنت قصته إيراد ثلاثة أحداث عجيبة، أذكر هنا منها حدثين، قال الله تعالى:


{وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)} [الكهف: 18/ 83- 91].
هذه هي القصة الرابعة من قصص سورة الكهف. وهي إحدى المسائل الثلاث التي سأل عنها المشركون المكيون بتوجيه من اليهود، بقصد الإحراج والامتحان.
والمعنى: ويسألك المكيون القرشيون عن خبر ذي القرنين، سؤال اختبار وتعنّت، لا سؤال تأدّب وتعلّم، فقل لهم: سأخبركم عنه خبرا مذكورا في القرآن، بطريق الوحي الثابت المنزل عليّ من ربي.
إن الله تعالى مكّن لذي القرنين، وآتاه ملكا عظيما بلغ المشرق والمغرب، وأعطاه من كل ما يتعلق بمطلوبه طريقا (سببا) يتوصل به إلى ما يريده، ويحقق أهدافه، فاتبع طريقا من الطرق المؤدية إلى مراده. حتى إذا وصل نهاية الأرض من جهة المغرب، ولم يبق بعدها إلا البحر المحيط، وهو المحيط الأطلسي، وسار في بلاد المغرب العربي، فوجد الشمس تغرب في عين ذات حمأة أي طين أسود، ووجد في أقصى الغرب عند تلك العين الحمئة قوما كفارا وأمة عظيمة من الأمم، فقال الله له بالإلهام: أنت مخير بين أمرين: إما أن تعذب هؤلاء بالقتل إن أصروا على الكفر، وإما أن تحسن إليهم وتصبر عليهم، بدعوتهم إلى الحق والهداية الربانية، وتعليمهم الشرائع والأحكام.
قال ذو القرنين لبعض حاشيته: أما من ظلم نفسه بالإصرار على الشرك، ولم يقبل دعوتي إلى الحق والخير، فسنعذبه بالقتل في الدنيا، ثم يرجع إلى ربه في الآخرة، فيعذبه عذابا منكرا شديدا، في نار جهنم.
وأما من آمن بالله ربا واحدا لا شريك له، وعمل العمل الصالح الذي يقتضيه الإيمان، فله الجزاء الحسن، وهو الجنة، وسنطلب منه أمرا ذا يسر وسهولة، ليرغب في دين الله والتزام أوامره.
ثم أتبع ذو القرنين سببا آخر، أي سلك طريقا آخر، متجها من المغرب إلى المشرق، حتى إذا وصل لمكان شروق الشمس من المعمورة، وجد الشمس تطلع على قوم حفاة عراة، لا شيء يسترهم من حر الشمس، ولم يجد عندهم بيوتا، وإنما يعيشون في مفازة أو بيداء، لا مأوى فيها، ولا شجر، يعتمدون في المعيشة على السمك وما جاء به البحر.
ومثل ذلك البلوغ للمشرق والمغرب، علّمنا ذا القرنين علوما نافعة، وأطلعناه أو أخبرناه عن إحاطته بجميع ما يحتاجه من المعارف والخبرات والأفعال، دون أن يخفى على الله منها شيء، وهذا من أجل تحقيق الطمأنينة، والرضا، والله سبحانه عالم الغيب والشهادة، لا يعرف الإنسان شيئا من تلك الغيبيات إلا بتعليم الله وإلهامه وإرشاده. وهذا تصوير لأحوال الأقوام البدائية، وبيان أن الأنبياء والصلحاء والعلماء هم الذين يتمكنون من نقلة هؤلاء البدائيين إلى أرقى مدارج العز والمدنية والحضارة.
بلوغ ذي القرنين ما بين السدّين:
لم تنته رحلة الرجل الصالح ذي القرنين في سبيل الله ومرضاته، فهو لم يترك مكانا إلا زاره، حاملا أصول الحضارة والمدنية والأخلاق، ومبلّغا الناس ما يؤمن به، ومصلحا ما يمكنه إصلاحه في دائرة ملكه الواسع العريض، وقائما بما منحه إياه ربه من مقتضى الحكمة والعلم النافع، فبعد أن وصل المشرق والمغرب، اتجه من الشرق إلى الشمال، فاستنجد به أقوام الشمال، فأعانهم مخلصا لله من غير أجر ولا عوض.
وهذه الرحلة الثالثة أخبر عنها القرآن الكريم في الآيات الآتية، قال الله تعالى:


{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)} [الكهف: 18/ 92- 98].
هذه تتمة الرحلة الشاقة لذي القرنين سلك الطرق المؤدية إلى مقصده، لأنها سبب الوصول، فكان- كما ذكر المؤرخون- يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة، ولا مرّ بمدينة إلا دانت له، ودخلت في طاعته وكل من عارضة جعله عظة وآية لغيره. ثم وصل بين السدين (الجبلين العظيمين) بين أرمينية وأذربيجان، فوجد من ورائهما قوما من الناس شرقي البحر الأسود، وهم الصقالبة (السلاف) لا يكادون يفهمون كلام غيرهم، لغرابة لغتهم، وقلة فطنتهم ونباهتهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجبلان اللذان بينهما السّدّ: أرمينية وأذربيجان. فقال سكان السد بين الجبلين: إن يأجوج ومأجوج (وهما قبيلتان من بني آدم) يفسدون في أرضنا بالتخريب والقتل والظلم ونحوه من مفاسد البشر.
فهل توافق على أن نعطيك جعلا من المال، على أن تقيم بيننا وبين هؤلاء المفسدين حاجزا منيعا يمنعهم من الوصول إلينا؟
قال لهم ذو القرنين: ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، وبعمل الأيدي، أعطوني قطع الحديد، حتى إذا حاذى بالبنيان رؤوس الجبلين طولا وعرضا، قال للعمال المساعدين: انفخوا بالكير على هذه القطع الحديدية، حتى اشتعلت النار المتوهجة، ثم صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى والحجارة، فصار كله كتلة متلاصقة وجبلا صلدا، وانسدت فجوات الحديد. فما قدر المفسدون من يأجوج ومأجوج أن يصعدوا فوق السد، لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا نقبه من الأسفل، لصلابته وشدته، وأراح الله منهم القبائل المجاورة، لفسادهم وسوئهم.
وقال ذو القرنين بعد إقامة السد المنيع الحصين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة، وأثر من آثار رحمة ربي بهؤلاء القوم الضعفاء، فإذا حان أجل ربي وميعاده بخروجهم من وراء السدّ، جعله ربي مدكوكا منهدما، مستويا ملصقا بالأرض، وكان وعد ربي بخرابه، وخروج يأجوج ومأجوج، وبكل ما وعد به حقا ثابتا لا يتخلف، كائنا لا محالة.
إن تطواف ذي القرنين في أنحاء الأرض ذو أثر كبير في التاريخ، فهو تطواف مؤيد بمعونة الله، من أجل مقاومة الفساد الخلقي والفوضى الاجتماعية، وغرس أصول الإيمان والحق والخير، وحمل الناس على منهاجه السديد وخطته الإصلاحية، وبها يعرف ما لذي القرنين الرجل الصالح من آثار طيبة وأعمال صالحة، تشبه أعمال الرسل والأنبياء، وتدل على حب الخير للإنسانية جمعاء.
أسباب الكفر وجزاؤه:
إن ميزان العدل الإلهي في غاية الدقة والاعتدال، فأهل العصيان والكفر إنما يعاقبون في الآخرة عقابا أليما بسبب ضلال سعيهم في الحياة الدنيا وإشراكهم، وتعاميهم عن الحق، وكفرهم بآيات ربهم ولقائه يوم القيامة، واتخاذهم آيات الله هزوا وسخرية، وهذه الأسباب الأربعة مجتمعة هي التي أدت إلى العقاب الشديد في الآخرة للكافرين المعاندين، وذلك حق وعدل مطلق، قال الله تعالى مبينا السبب والجزاء للكفر وأهله:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8